( القبط )
بسم اللـه القوى
- قالوا : أن نجارا قبطيا إعتنق غير المسيحية دينا فعملت له الزفة اللازمة وطيف به البلد بين تهليل وتكبير وتهانى و آمانى , مما بعث الغرور فى نفسه فظن أنه أصبح طينة من غير ذى الطينة . ففى ذات يوم كان هذا النجار واقفا أمام دكانه يشتغل بقادومه فى قطعة من الخشب فمرت على دكانه سيدة قبطية كانت تلبس ملاءة جديدة فنظر إليها هذا النجار وأخذ يداعبها بالألفاظ ويتبعها بالنظرات فهوت القادوم على يده فأصابتها إصابة لابأس بها تتناسب مع سفالته فى إيذاء المرأة بساقط الألفاظ وفحش القول . - ولكنه عوض عن أن يكظم غيظه فى نحره ويعتبر بهذه التقمة النازلة فيعتذر لهذه المرأة عن إساءته لها ويتوب إلى ربه فيرحمه , إندفع بشدة الغضب وألقى القبض عليها وجرها فى غلظة وقساوة إلى مركز الحاكم و وهاكم صورة الشكوى التى ملأت مخ حاكم البلد : - " أن هذه النصرانية مرت على دكانى وأنا أشتغل , فزغللت عين المسلم بملاءتها اللامعة فلم أستطع رؤية القادوم فنزلت على يدىّ فقطعتها " . - فوجه الحاكم التهمة إلى المرأة وقال : من قال لك إلبسى ملاءة فتزغلل عين المسلم فتقطع يده ؟ ! . فأجابته المسكينة بالرد المعقول الذى يسلم به كل عاقل وقالت : ليس الذنب ذنبى لأنى ألبس ماتلبسه جميع النساء , إنما الذنب ذنبه لأنه حول نظره عن عمله وأنشغل بمراقبتى ومضايقتى إذ تتبعنى بنظراته الفاسقة ورشقنى ببذىء القول وساقط الألفاظ فنال جزاءه العادل من رب الفضيلة وحامى حمى الأعراض والشرف . - ولم تدر المسكينة أنها أمام رجل وليس برجل أمام حاكم وليس بحاكم أمام مخ ولكنه فارغ من المنطق , لذلك كان كلامها المنطيقى لايجد ركزا فى عقله لأن ليس هناك فى المخ مايجذب إليه منطق المرأة وقولها المعقول . وهكذا يضيع طيب القول وقوة الحجة فى كل زمان ومكان أمام العقول المحشوة بالخرافات والأوهام والسخافات وتصورات الشهوة . فما كادت المرأة تدافع عن نفسها على هذه الصورة المنطقية حتى هاج هائج الحاكم وإنفجر بركان غضبه عليها وأمر بقطع يدها عوضا . - ترى لماذا غضب ؟ غضب من قولها لأنه أعتبر ردها هذا موجها إليه وإعتراضا عليه لأنه وضع نفسه موضع أحد الخصوم وهو النجار . ومادام هو الذى سأل المرأة ووجه إليها التهمة التى يتهمها بها النجار , فيكون جواب المرأة هذا إعتراض على أقواله وإتهام لعقليته , وهذه جريمة تقترفها مصرية فلاحة وكمان نصرانية لذلك غضب غضبته . - ولما كان الظلم أكبر معلم للشعوب وأمهر جراح للأمم لأنه ينتزع من المخ صمامات طالما حجزت وعطلت ومنعت تفكيره وإشعاعه وحيله وإختراعاته , فهو كالمبرد وبقية الآلات التى يستعملها الصناع فى تنقية الجواهر من المواد الغريبة التى تحجب لمعانها وسطوعها وتدفن جمالها ورونقها . - فإن المرأة المسكينة ماسمعت هذا الحكم الصارم الظالم الغاشم بقطع يدها , حتى تفجرت ينابيع عقلها وإنقشعت غيومه وإنزاحت حجبه وسطع بنوره على يأسها فحوله إلى رجاء , ومن ثم تقدمت إلى الحاكم بعقل جديد ولكن ليس بمنطق جديد بل بسفسطة جديدة تتفق وعقلية هذا الحاكم . وهذا مايجب أن يكونه الإنسان العاقل فى وسط جنون الناس , أن يتكيف بحسب حالتهم لا أن يكيف الناس بحسب حالته لأن هذا محال . ومعناه أن يكلم الناس بلغتهم ويقدم لهم الطعام حسب معدتهم وأسنانهم التى يمضغون ويهضمون بها . - تقدمت إلى الحاكم فى صورة ولهجة من تريد أن تعترف له بسر قد تكتمته وقالت : حقا يا أفندينا أنت فيك سر عظيم ولايمكن أن تخفى عنك خافية و مادام الأمر وصل لقطع يدى فأنا سأبوح لك بالسر وأقول لك السبب فى هذا كله . فتهلل الحاكم وطفح وجهه بشرا وسرورا وقال : جانم امال طلع اللى عندك ده أنا باطلع الكوفت . أجابته أن الصباغ الذى يصبغ لنا هذه الملاآت هو السبب فى قطع يد هذا النجار , لأنه بعد أن يصبغ الملاءة يصقلها ويلمعها حتى تخطف الأبصار ولولا عمله هذا ماحدث هذا الحادث اليوم . فابرقت أسارير الحاكم كمن إكتشف بحكمته وبراعته فى الأتهام سرا مخفيا وقال : ده كلام تمام أنت تطلع وتروح إلى حالك . - ونظر إلى قواصه وقال هاتوا الصباغ حالا , فلما حضر الصباغ إبتدره الحاكم قائلا : من قال لك لمع ملاءة المرأة حتى تخطف بصر النجار المسلم فتقطع يده . فإندهش الصباغ لهذا الإتهام وقال : وأنا مالى ياسيدى !! , هذه اللمعة حسب طلب أصحابها و فغضب الحاكم من جوابه وامر بقطع يده , فلما رأى المسكين هذا أنه واقف امام من لايجدى معه المنطق نفعا وأدرك النكتة عمد إلى الحيلة التى كانت وليدة وقتها وجنين الظلم والغشم فعاد وقال : ما باليد حيلة ياسيدى فأنا مضطر أن أكشف لك عن السر , فالذنب ليس ذنبى بل هو ذنب النساج الذى يتخير خيوط الغزل من النوع الذى إذا وضعناه فى الدن يطلع لامعا فلو إستحضرته إلى هنا ونبهت عليه أن لايعود إلى هذا العمل خلصت الناس من هذا الضرر فإبتسم الحاكم فى وجهه وقال : هذا هو الكلام الجد , أنت إذهب والنساج يحضر . - فأحضروا النساج بدوره ووجه إليه الإتهام فأجاب بالمعقول بأن كل الخيوط والفتلات كلها سواء فى الصباغ . فصاح الحاكم فى وجهه وقال : هل أنا مش يعرف أنت عاوز تمكر علىّ ؟ , أنا لابد من أن أقلع عينك . وفعلا أمر بقلع عينه و فلحظ النساج أن هذه القضية قضية مكر لا دفاع وحيل لا برهان و إشتم رائحة سابقيه وماتركوا من أثار الحيل فإستوحى وحيهم وحذى حذوهم , لأن الروح الذى حل عليهم روح واحد هو الظلم والإضطهاد . - فرجع النساج عن غى المنطق وخطر الكلام المعقول أمام من لا يعقل وخاطبه بلغته وتفاهم معه على حسب عقليته وتقدم إليه وقال : ياسيدى أنت فينا بمنزلة المهندس فى المعمار تضع كل عامل فى عمله وتأخذ الزائد عن العمل وتضعه حيث يحتاج إليه , فأنا عبدك فى حاجة إلى عينى الأثنين لأنه لما أدفع الوشيعة ( المكوك ) بيدى اليمين أنظر إليه بعينى الشمال وإذا دفعته بيدى الشمال أنظر إليه بعينى اليمين فإذا قلعت عينى تعطلت عن العمل ويخسر أفندينا عاملا من عمال بلده , فلكى ينفذ أفندينا أمره حتى لا تنزل كلمته إلى الأرض فهوذا العتقى الذى يرقع المراكيب القديمة تراه دائما يغمض عينا من عينيه عندما يشتغل وهو بهذا مستغن عن عينه فإذا قلعتها بدلا عن عينى فتكون بذلك قد أرحته من غلقها وفتحها وفى نفس الوقت أبقيت عين عبدك ليخدمك بها . - فإقتنع الحاكم بهذا الدفاع المتين !! وقال هاتوا العتقى فأحضروه وتلى عليه الحكم وحيثياته , فلكون العتقى لم يكن من أصل قبطى صاح وإستمر يصيح أين العدل ؟ أين العقل ؟!!! . فامر الحاكم أن يشنقوه على باب بيته عبرة لمن يعتبر , فذهبوا به وربطوا الحبل فى واجهة بيته ووضعوا الحبل فى رقبته فلم يشنق لأن قامته كان اطول من باب البيت , والحاكم كان أمر أن تعلق المشنقة فى العتبة العليا للبيت . - فعادوا إلى الحاكم وقالوا له ان الرجل لم يمت لأنه أطول من الباب وكان الحاكم قد تعب من طول الوقت الذى إستغرقه نظر هذه القضية فصاح بهم : إذهبوا الآن حتى تجدوا رجلا قصير القامة إشنقوه عوضا عنه !
|