من أجمل ما قرأت ( 3 )
| المكر القبطى و أساتذته ( 1 ) |
| ( القبط ) بسم اللـه القوى - روى الخلف عن السلف بأن أحد حكام الأرياف قديما " طلعت فى مخه " أن يتعلم المكر فأمر بأن يحضروا له قبطيا أيا كان , فخرج رجاله ووقفوا أمام باب القسم فلما مر أحد الأقباط وطبعا كان يعرف بملبوسه , ولاسيما عمامته السوداء التى كانت رمزا عن معيشته و أحواله وظروفه , أمسكوه بالقوة وأدخلوه على الحاكم أو طالب العلم فلما مثل بين يديه وهو يرتعد ويرتعش وينتفض إلى آخر ما جاء فى قاموس الخوف والهلع - نظر إليه الحاكم وقال : " أنا عاوز أتعلم المكر وأنت لازم تعلمنى المكر الموروث عن أجدادك " , فانقلب خوف القبطى إلى دهشة أو بالحرى إمتزج الخوف بالدهش فنشأت عنه حالة ذهول , إذ وهو الرجل الغلبان الذى لايعرف كوعه من بوعه ولايمينه من شماله , الحشرة الضعيفة والمخلوق الحقير يطلب إليه حاكم الخط سيد الناس أن يعلمه مالايعلم فوقف حائرا زائغ العينين ملجوم اللسان لايدرى بماذا يجيب . - فصرخ الحاكم فى وجهه صرخة إنحلت لها مفاصله و إرتخت معها أعصابه فساب اللسان وتدلى من فمه خوفا وجزعا وسمع الحاضرون بكل صعوبة مانطق به لسان هذا الغلبان : أنا لا أعرف المكر ولم يسبق لى دخول المدارس حتى ولا الكتاتيب , فإشتعل غضب الحاكم وقدحت عيناه شرارا على القبطى لأنه حسبه يخفى مكره ويضن به عليه فتوعده بصنوف العذاب والتنكيل وهدده بأن يقطع كل يوم من لحمه قطعة إن لم يعلمه المكر . - وفعلا أمر بالسيف فأحضروه وفى وجه الغلبان أشهروه , فأطل الموت من غمده وأبرقت عيناه من وميضه فتجمعت أشعة عقل القبطى من شتاتها وإنحصرت فى نقطة الموت البارق الذى خطف نظره , فما عاد يفكر فىسواه , وعندها فتقت الحيلة وإنكشف الغطاء عن جوهرة العقل , فتقابل لمعان السيف بلمعان العقل وتغلبت حدة الذهن على حد السيف , وتوارى بريق السيف ولمعانه أمام إشراق العقل , فكان السيف للعقل بمثابة " الزناد للصوانة " قدحها فأخرجت شرارها ونارها - فإذا بالقبطى ينقلب رجلا آخر فيصيح كما صاح أرشميدس الذى قال وجدتها وجدتها , لأنه وجد مافتش عنه الحاكم فيه فلم يجده , صرخة هى فى الحقيقة صدى لصرخة الحاكم التى ترددت فى جو عقله الراكد فحركت كوامنه وأيقظت مشاعره الداخلية . وطالما كانت الشدائد والإضطهادات المرة القاسية التى تصغر معها النفس ويضيع معها الرشد ويغيب عنها الصواب منوما مغنطيسيا يحلل كبتات النفس وينتزع عقدها ويزيل عللها ويفتق حيلتها ويجعلها صالحة لكل أمر من أمور الحياة . - فقد قرانا عن سيدة محسنة كانت تهتم بتثقيف النشّ , ففتحت مدرسة على نفقتها الخاصة وكان لها إبن وحيد ولكنه بليد مسدود المخ , فأراد المدرسون أن يعلموه قطعة شعرية ليلقيها فى حفلة ختام السنة المدرسى , فقضى الشهور الطوال والمدرسون يسهرون معه علّه يستظهرها و الأم فى إنتظار , فخابت جهودهم وضاع تعبهم سدى . - وقبل الحفلة بيوم جاءوا إلى الأم المسكينة وصرحوا لها بحقيقة أمر إبنها وبلادة عقله , فنظرت إلى إبنها فى صمت عميق ثم إنفجرت إنفجارا هو دوى صوتها الذى رن رنة مفجعة وقالت : آه يا حزنى عليك يا إبنى , فما دوى صوتها هذا فى جو عقله حتى سقطت أسوار بلادته , كما سقطت أسوار آريحا من أصوات الأبواق الإسرائيلية , صرخ الولد مرددا صوتها قائلا : حفظتها يا أماه , ولشد ما أدهشها حينما تلا الولد القصيدة أمامها مستظهرا أياها بحذافيرها وحسن توقيعها . - وهكذا صاح القبطى صيحة ماكرة وقال : أه يانارى ! يعوض ربنا فى صنعة الجدود ! , ففرح الحاكم وأبرقت أسارير وجهه وقال : " جانم قبطى خرسيس " !! طلع اللى عندك ! جنس فرعون ماتجيش إلا بالخوف والشدة !! , أجابه القبطى وقال : لولا أنى متزوج وعندى طفل صغير وليس له ولا لأمه من يعولهما لفضلت أن أموت بهذا السيف عن أن أسلمك صناعة الجدود , فما باليد حيلة , لك بخت يا أفندينا . - هات لىّ شوية كتان مندوف , فأمر الحاكم بذلك , فأحضروا أمامه كمية منه , فقال القبطى للحاكم : أمسك الكتان وأفتل بيدك حبلا طويلا وأنا أمسك لك الحبل الذى تفتله , ففعل الحاكم وكان القبطى كلما طال الحبل يخرج إلى الخارج حتى مل الحاكم وتعبت يداه من الفتل , فقال : لقد تعبت فمتى تعلمنى المكر أو متى يأتى , أجابه القبطى : نحن لم نتعلم المكر إلا بالصبر والتعب والإنتظار فإن كنت لا تصبر وتتعب لايمكننى أن أعلمك وإلا إذا كنت تريد قتلى فإقتلنى لأنى ندمت على صناعة الجدود . فأجابه الحاكم وقال : لا أنيلك غرضك فلا أميتك بل لابد لى من أن أطيل بالى وأصبر وأحتمل حتى أستلم منك صناعة الجدود . - ولم يدر أن القبطى قصد بهذا توريطه وإستمهاله ليكتسب الوقت , فجدد الحاكم عزيمة جديدة بل قل أنه فتح إعتمادا جديدا فى ميزانية الصبر والإنتظار و إستأنف الفتل حتى طال الحبل وتمكن القبطى من الوصول إلى آخر الشارع فدخل إلى الحاكم وقال : شد حيلك كمان مجهود بهذا القدر وهاهو المكر بدأ فى الظهور , وتركه وعاد يمسك بالحبل ووضع الحاكم فى مخه أن يستمر قدر هذه المدة أيضا فلما إستوثق القبطى من هذا ربط طرف الحبل فى وتد ودقه فى حائط وفر هاربا وسابه يفتل . - فلما تعب الحاكم من الفتل نادى القبطى ليستعجله المكر فلم يجده فهاج وماج وأزبد وأرغد وتوعد وتهدد وصاح بعساكره أن يخرجوا للتفتيش عليه وان يسابقوا الريح بخيلهم حتى يعودوا به أليه . فخرجوا فى مفارق الطرق مفتشين حتى عثروا عليه بعد يومين فشدوا وثاقه وعادوا به إليه . - فلما وقعت عين القبطى على عين الحاكم رأى الموت يطل عليه مرة أخرى ولكن فى هذه المرة ياس وإستسلام , كان هذا أيضا التنويم عينه لأن ضياع الصواب والرشد فرصة لظهور العقل الباطن فعادت ريمة لعادتها القديمة ففتقت الحيلة ورفع القبطى رأسه وعلا صوته وقويت عينه على الثبات أمام عين الحاكم المتقدة بالغضب ورده على تهديده وقال : على م تتهدنى وهل يليق بالتلميذ أن يهين معلمه ؟ ! . - فإندهش الحاكم لجرأة القبطى وقال : كيف لا أعذبك وأنتقم منك لأنك تسخر منى وتفر هاربا وتسيبنى أفتل ؟ , أجاب القبطى فى رباطة جأش : ماذا تريد منى ؟ ألست تريد أن أعلمك المكر وقد علمتك وأعطيتك أول درس بأن أريتك كيف تتخلص ممن يضايقك بطريقة عملية وأريتك كيف تهرب منه وتسيبه يفتل . - فضحك الحاكم وأفعم قلبه سرورا وقال : إذن أنا اليوم تعلمت مبادىء المكر ؟ , أجاب القبطى : نعم لقد صرت اليوم كواحد منا تعلم كيف تمكر على الناس بمثل ما مكرت عليك . فأنعم عليه بمبلغ كبير من المال وطلب إليه أن يعطيه درسا ثانيا . أما القبطى فقال له : أن هذا الدرس أجهد قواى العقلية ولابد لىّ من بضعة أيام اكل فيها وأشرب و أتريض حتى أجدد قواى وأحضر لك درسا ثانيا . - فصرح له الحاكم بأجازة مدة أسبوع إستعد القبطى فى خلالها للرحيل عن البلد , والتخلص من هذه العقلية وهو يقول : أما الدرس الثانى فسوف تتلقاه من غيرى ممن يرميه نحس طالعه بين يديك كما أنقذنى حسن الحظ من يدك و وخرج من أمامه لايلوى على شىء مودعا الوطن وما فيه من أهل و صحب و إخوان متمثلا بقول الشاعر : - إذا حل الثقيل بأرض قوم فما للساكنين سوى الرحيل |
| *********************************************** - نقلا عن مجلة المنارة المرقسية لصاحبها القمص سرجيوس خطيب ثورة 1919م - نشرت بتاريخ 19 سبتمبر سنة 1931م _________________________ |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق